فصل: مسألة يموت المرتهن ويأتي الراهن ببينة أنه رهنه ولا يشهد له بكم رهنه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ارتهن رهنا فكتب أنه قبضه المرتهن وحازه ولم يفعل ثم باعه صاحبه:

ومن ارتهن رهنا فكتب أنه قبضه المرتهن، وحازه ولم يفعل، ثم إن صاحبه باعه، فبيعه جائز؛ لأنه ليس برهن مقبوض، فأمر صاحبه فيه جائز، وليس كتاب المرتهن أنه قبضه وحازه ولم يفعل بشيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الشاهد في الرهن على الحيازة والقبض، لا معنى له في وجه من الوجوه، إذا علم أن ذلك لم يكن بإقرار المرتهن بذلك، ولو تشاهدا على القبض والحيازة، ولم تعاين البينة ذلك، ثم باع الراهن الرهن، فادعى المرتهن أنه باعه تعديا عليه، ومناقصة له فيه بعد أن قبضه منه على ما تشاهدا عليه، لوجب أن ينفذ البيع ويبطل الرهن، إن كان الرهن بيد الراهن أو بيد المبتاع، وأن لا ينفذ على اختلاف إن كان بيد المرتهن، وكذلك لو قام الغرماء على الراهن، فألفي الرهن بيد المرتهن، فقال: قبضته حين تشاهدنا على ذلك قبل قيام الغرماء، وقال الغرماء: بل قبضته بعد قيامنا، لكان المرتهن أحق به على اختلاف.
والقولان في هذين الوجهين يتخرجان على القولين القائمين بين كتاب الهبة والصدقة من المدونة في الذي يهب الجارية لرجل، ويشهد له أنه قد قبضها وحازها ولم تعاين البينة القبض والحيازة، ثم مات الواهب وألفيت الجارية في يد الموهوب له، فقال: قبضتها في صحة الواهب، حين أشهد لي بقبضها، وقال الورثة: بل قبضتها بعد موته، ولما تشاهدا على الرهن والهبة دون القبض والحيازة، فألفي الرهن بيد المرتهن، أو الهبة بيد الموهوب له بعد الموت أو بعد قيام الغرماء، فادعيا أنهما قبضا ذلك، لم يصدق واحد منهما في ذلك باتفاق، إلا أن تكون لهما بينة على ذلك، ولا ينتفع في الرهن بإقامة البينة على أنه قد مضى قبضه وحازه قبل قيام الغرماء إلا أن تشهد البينة أنه قبضه وحازه بأمر الراهن وإذنه، والرهن في هذا بخلاف الهبة؛ لأن القبض فيه أوجه لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ولأن من أهل العلم من يقول: لا يكون رهنا حتى يكون مقبوضا. وبالله التوفيق.

.مسألة ارتهن رهنا بحق له إلى أجل واشترط وضع الرهن على يد رجل:

ولو أن رجلا ارتهن من رجل رهنا بحق له إلى أجل، واشترط وضع الرهن على يد رجل ضمن للمرتهن قبضه وحوزه، وتحمل له مع ذلك بالحق إلى الأجل الذي رهن الرهن إليه فيه، فتركه عند الراهن ولم يقبضه، فقام صاحب الحق على قبض الرهن وحوزه، فقال الحميل: أنا أخرته عند الراهن، إرادة الرفق به، وأنا له وللحق ضامن إلى الأجل، فإن الحجة في ذلك إلى المرتهن؛ لأنه يقول: أخاف أن يفلس الحميل، والذي عليه الحق، فيدخل معي في الرهن عندي ولا آخذ من حقي وفاء فأرى أن يؤمر الحميل بقبض الرهن من الراهن، فإن لم يفعل نزع منه، ووضع للمرتهن على يدي غيره. والحمالة بالحق عليه كما هي.
قال محمد بن رشد؛ هذه مسألة بينة صحيحة، لا وجه للقول فيها، إذ لا إشكال في شيء من وجوهها ومعانيها. وبالله التوفيق.

.مسألة المرتهن يفتات على الراهن في بيع الرهن فيفوت:

وقال في المرتهن يفتات على الراهن، في بيع الرهن، فيفوت، ولا يعرف له الراهن ولا المرتهن صفة ولا قيمة يؤخذ بها، ولا بينة بينهما، واختلفا على ذلك، واجتمعا على الحق، ولم يختلفا فيه: إن المرتهن يحلف على ما باع به الرهن، ثم يجعل ذلك ثمنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة: أن الراهن يدعي أن قيمة الرهن رهنه أكثر مما باعه به المرتهن، والمرتهن يقول: بل قيمته ما بعته به، وهذا وجه قوله: واختلفا على ذلك، ويحتمل أن يكون وجه اختلافهما أن كل واحد منهما يدعي على صاحبه أنه يعلم صفته، فالراهن يقول للمرتهن: صفه فيتبين من وصفك إياه أنك بعته بأقل من قيمته، والمرتهن يقول للراهن: صفه أنت فيتبين من وصفك إياه أني بعته بقيمته. ووجه الحكم في ذلك إن ادعى الراهن أن قيمة الرهن أكثر مما باعه المرتهن، ولم يدع واحد منهما على صاحبه أنه يعلم صفته، أن يحلف المرتهن ما كانت قيمته أكثر مما باعه به، ويزيد في يمينه: ولقد باعه بكذا وكذا إن لم يكن له بينة على معرفة ما باعه به، فإن نكل عن اليمين حلف الراهن أن قيمته كذا وكذا، واستوجب ما حلف عليه، وأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعرف صفته، فيحلف كل واحد منهما على صاحبه أنه يعرف صفته لصاحبه ابتداء أنه ما يعلم صفته، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا أو حلف الراهن، ونكل المرتهن عن اليمين، كان الحكم في ذلك على ما وصفت لك من يمين المرتهن، إن لم يدع واحد منهما على صاحبه أنه يعرف صفته، وإن حلف المرتهن أنه ما يعلم صفته، ونكل الراهن عن اليمين أنه ما يعلم صفته، لم يجب على المرتهن اليمين، بأن يحلف ما كانت قيمته أكثر مما باعه به، ويحلف لقد باعه بكذا وكذا، إن لم تكن له بينة على معرفة ما باعه به، وقوله في الرواية: إن المرتهن يحلف على ما باع به الرهن، ثم يجعل ذلك ثمنه، معناه: إذا لم تكن له بينة على معرفة ما باعه ولم يدع عليه الراهن أنه باعه بأقل من قيمته، ولو ادعى ذلك عليه، لوجب أن يزيد في يمينه وما كانت قيمته أكثر من ذلك، ولو لم يدع ذلك عليه وكانت له بينة على معرفة ما باعه، لم يجب عليه يمين.
ووقع في بعض الكتب في هذه المسألة مكان واختلفا على ذلك: وحلفا على ذلك، ومعناه: إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعلم صفته على ما ذكرناه، ورأيت لابن دحون أنه قال في ذلك: يمين الراهن لا معنى لها، هو يأخذ ما أقر به المرتهن من الثمن إذا جهلا الصفة، فلا معنى ليمين الراهن، وإنما يصح قوله إذا لم يدع واحد منهما على صاحبه، أنه يعرف صفته، وإنما اختلفا في مبلغ ما باع به الرهن. وظاهر الكلام خلاف هذا لأن قوله على ذلك، إنما هو إشارة منه إلى ما تقدم من أن كل واحد منهما يقول: لا أعرف صفته ومعناه، ويقول لصاحبه: وأنت تعرفها، فلا وجه للمسألة غير ما ذكرناه فيها. وبالله التوفيق.

.مسألة الراهن والمرتهن يختلفان في الرهن بعينه:

وقال في الراهن والمرتهن يختلفان في الرهن بعينه فيقول الراهن: رهنتك ثوبا جديدا ويقول المرتهن: بل رهنتنيه ثوبا خلقا، وهو هذا بعينه، ولا بينة بينهما، واجتمعا على الحق، كان القول قول المرتهن مع يمينه.
قال محمد بن رشد: أما إذا اتفق الراهن والمرتهن على الرهن بعينه، واختلفا في صفته يوم رهنه إياه، فقال الراهن: كان جديدا وقال المرتهن: كان خلقا على ما هو عليه، فلا اختلاف ولا إشكال في أن قول المرتهن، في أنه رهنه إياه خلقا على ما هو عليه؛ لأن الراهن مدع عليه أنه لبس الثوب حتى أخلقه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وأما إن أتى المرتهن بالثوب خلقا فقال الراهن: ليس هذا ثوبي؛ لأني رهنتك ثوبا جديدا وقال المرتهن: بل هو ثوبك بعينه، رهنتنيه إياه خلقا على ما هو عليه، قال ابن القاسم ها هنا: إن القول قول المرتهن، ظاهر قوله أشبه أن يكون ذلك الثوب خلقا على ما هو عليه، يرهن في مثل ذلك الحق، أو لم يشبه، إذ لم يفرق بين ذلك، خلاف قول أصبغ في نوازله بعد هذا ومثل قول أشهب. وبالله التوفيق.

.مسألة رهن عبدا فأعتقه الراهن أو دبره:

وعن رجل رهن عبدا فأعتقه الراهن أو دبره، إن الراهن إذا كان موسرا بما عليه دفع إلى المرتهن حقه، وجاز عتقه أو تدبيره وإن كان غير موسر بما رهنه، فلا عتاقة ولا تدبير له، والمرتهن أحق برهنه حتى يستوفي حقه.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين العتق والتدبير، في اليسر والعدم، فقال: إن كان موسرا بما رهنه به، عجل له حقه، وجاز عتقه أو تدبيره، وإن كان غير موسر بذلك، فلا عتاقة له ولا تدبير، وفرق بينهما في المدونة في اليسر والعدم أيضا، فقال في التدبير: إنه جائز، ويكون رهنا بحاله؛ لأن للرجل أن يرهن مدبره.
قال محمد بن المواز: فإذا حل الأجل ولا مال له بيع، يريد: وإن كان موسرا يوم رهنه، بخلاف ما قاله في العتق، والذي يوجبه النظر الصحيح في هذه المسألة، أن يفرق فيها بين أن يكون الراهن يوم دبره موسرا بما رهنه فيه، أو غير موسر بذلك، فإن كان موسرا بذلك، عجل له حقه وجاز تدبيره على ما قاله في هذه الرواية، خلاف ما في المدونة؛ لأن التدبير إن أجيز على ما في المدونة دون أن يعجل للمرتهن حقه، فحل الأجل ولا مال للراهن غير المدبر، فإن لم يبع للمرتهن من أجل أن الراهن كان موسرا يوم دبره، والتدبير لا يرد. في حال الحياة الدين الحادث بعده دخل عليه ضرر في رهنه، وإن بيع له في رهنه على ما قاله محمد بن المواز، كان ذلك إبطالا للتدبير الذي قد توجه تنفيذه بإجازته، وإن لم يكن موسرا بذلك، جاز تدبيره على ماله في المدونة خلاف قوله في هذه الرواية: إنه إن كان غير موسر بما رهنه فلا عتاقة ولا تدبير له؛ لأنه إن لم يكن موص بما رهنه يوم دبره بما رهنه على المرتهن ضرر في تدبيره، إياه؛ لأن من حقه أن يباع له في دينه إذا حل أجله وإن كان قد دبره؛ لأن دينه قد سبق التدبير، فلا وجه لرد تدبيره إذا لم يكن موسرا يوم دبره بما رهنه به، وكذلك اختلف، إذا كاتب الراهن عبده بعد أن رهنه، فقال محمد بن المواز يبقى مكاتبا، وفي هذا نظر؛ لأنه قد يعسر يوم حلول الأجل، فلا يكون في ثمن الكتابة إذا بيعت وفاء بالدين، فتبطل الكتابة. وقال في المدونة: إن ذلك بمنزلة العتق، إن كان للسيد مال، أخذ منه ومضت الكتابة، يريد: وإن لم يكن له مال نقضت الكتابة، إلا أن تكون قيمة الكتابة مثل الدين، فيجوز بيع الكتابة في دينه، وإن لم يكن في قيمة الكتابة وفاء بالدين، نقصت كلها؛ لأنه لا يكون بعضه مكاتبا، بخلاف المدبر إذا كان بعضه يفي بالدين؛ لأنه يجوز أن يكون بعضه مدبرا عند ابن القاسم. وقال محمد: لا يكون بعضه مدبرا، كما لا يكون بعضه مكاتبا. والذي في المدونة من أن الكتابة في هذا بمنزلة العتق هو الصواب المشهور في المذهب، ولم يختلفوا في العتق أنه إن كان له مال أخذ منه الحق معجلا، ومضى العتق، وإن لم يكن له مال، وكان في العبد فضل، بيع منه، وقضي الدين، وأعتق الفضل، وإن لم يكن فيه فضل لم يبع حتى يحل الأجل، لعله أن يكون فيه حينئذ فضل، فقوله في هذه الرواية: وإن كان غير موسر بما رهنه، فلا عتاقة له ولا تدبير، معناه: إن لم يكن فيه فضل للعتق أو للتدبير، وقال أبو الزناد: إذا لم يكن مع السيد مال، فقضى العبد ما هو فيه مرهون أعتق ولم يتبع سيده بشيء من ذلك، والصواب أن يتبع سيده بذلك، إذا أداه عنه على سبيل السلف لأنه لما تعدى بعتق العبد، فقد رضي ببقاء الدين في ذمته، فلو رضي المرتهن بإجازة العتق واتباع ذمته بحقه، لكان ذلك له، ولو أدى ذلك الدين أحد عنه سلفا، لكان له أن يتبعه له، ويمضي عتق العبد، ولم يكن له في ذلك كلام، إذ قد رضي بعتق العبد، وبقاء الدين في ذمته. فلو رضي المرتهن بإجازة العتق واتباع ذمته بحقه، لكان ذلك له، ولو أدى ذلك الدين أحد عنه سلفا، لكان له أن يتبعه به ويمضي عتق العبد، ولم يكن له في ذلك كلام، إذ قد رضي بعتق العبد وبقاء الدين في ذمته، فكذلك العبد إذا أراد أن يسلف سيده المال، ويتبعه به دينا في ذمته. ووجه ما ذهب إليه أبو الزناد، أن عتقه لما لم يتم إلا بقضاء الدين، صار كأنه أداه، وهو في ملك سيده. وفي هذا نظر، قد ذكره أبو إسحاق التونسي في كتابه فمن شاء وقف عليه فيه. هذا كله إذا أعتق الراهن العبد المرهون أو دبره بعد أن حازه المرتهن.
وقد مضى القول في هذا الرسم إذا فوت الراهن الرهن بشيء من وجوه الفوت، قبل أن يحوزه المرتهن، فلا وجه لإعادته، بالله التوفيق.

.مسألة يرتهن الجارية فيزوجها غلاما له بغير إذن سيدها فتلد وتموت:

وعن الرجل يرتهن الجارية فيزوجها غلاما له، بغير إذن سيدها، فتلد له، فتموت من نفاس أو لا تموت، إن ولدها لسيدها، وهم رهن مع أمهم، ويفسخ نكاحها، وأما إن ماتت من نفاس نكاحها ذلك، فلا ضمان عليه. قال ابن القاسم بلغني هذا عن مالك ولست آخذ به، وأراه ضامنا لها إذا ماتت من قبل الحمل.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك في غير هذا الكتاب: إنه ضامن، مثل قول ابن القاسم. وقال أشهب: لا ضمان عليه في الموت من الولادة؛ لأن الحمل ليس بإرادة المرتهن. وقال أصبغ: لأنه إنما تعدى في النكاح لا في الوطء. وقول ابن القاسم، هو الصحيح؛ لأن الحمل سببه الوطء، وقد قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: جل النساء على الحمل، فإذا زوجها المرتهن، فقد أباحها للوطأ وعرضها للحمل. وقد قالوا فيمن طرد صيدا من الحرم إلى الحل؛ إن عليه الجزاء، من أجل أنه عرضه للصيد. وهذا مثله في المعنى وبالله التوفيق.

.مسألة رهن رهنا في حق له إلى أجل فأقاما الرهن بأربعة دنانير فضاع الرهن:

وقال في رجل رهن رجلا رهنا في حق له إلى أجل، فأقاما الرهن بأربعة دنانير، فضاع الرهن، فأرى قيمة الرهن، ما قوماه به، إلا أن يكونا قصرا في قيمة الرهن أو زادا فيه، فيرد إلى قيمته إذا علم ذلك. قال ابن القاسم: كل من ارتهن رهنا مما يغاب عليه، فالقيمة فيه يوم رهنه، وإن تداعيا في الحق والرهن قائم، فالقيمة فيه يوم يتداعيان فيه.
قال محمد بن رشد: قال ها هنا في الرهن الذي يغاب عليه إذا أهلك عند المرتهن: إن عليه قيمته يوم ارتهنه. وقال فيما تقدم في هذا الرسم: إن عليه قيمته يوم ضاع عنده.
وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى فلا معنى لإعادته. وإذا وجبت عليه قيمته يوم ارتهنه على ظاهر هذه الرواية، أو على ما حملناها عليه، وكانا قد قوما الرهن يوم الارتهان، فالواجب أن تكون قيمته ما قوماه به، إلا أن يكونا قصرا في تقويمه كما ذكر. وبالله التوفيق.

.مسألة ارتهن رهنا بغير بينة ثم زعم أنه قد رده إلى صاحبه وأخذ حقه منه:

ومن ارتهن رهنا بغير بينة ثم زعم أنه قد رده إلى صاحبه، وأخذ حقه منه، فينكر ذلك صاحب الرهن، إن صاحب الرهن يحلف على ما قال، ويضمن المرتهن الرهن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ما كان لا يصدق في دعوى الضياع فيه من العواري والرهون التي يغاب عليها، فلا يصدق في دعوى الرد فيه، سواء قبض ذلك ببينة أو بغير بينة. وهذا ما لا اختلاف فيه لحفظه في المذهب، إلا ما وقع في آخر سماع أبي زيد من كتاب الوديعة، فإن فيه دليلا على أنه يصدق في دعوى رد الرهن إذا قبضه بغير بينة، وهو بعيد، فلعله إنما تكلم على الرهن الذي لا يغاب عليه، فتصح المسألة وتأتي على الأصل.
وقد مضى في أول سماع عيسى وسماع أصبغ من كتاب الرواحل والدواب، تحصيل القول في هذا الأصل. وبالله التوفيق.

.مسألة كان عنده رهن فمات المرتهن والرهن عنده:

ولو أن رجلا كان عنده رهن فمات المرتهن والرهن عنده، واستخلف رجلا فأعطى الخليفة الرهن بعض ما يلي ممن استخلفه عليه من ورثة الميت أن يقتضي له دين أبيه، فانطلق المأمور برهنه، فطلب الخليفة نقض ذلك، وأخذ الرهن، قال: يحلف الخليفة بالله أنه لم يأمره أن يرهنه ثم يأخذه:
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إنه ليس له أن ينقض ذلك ويأخذ الرهن، إلا بعد يمينه أنه لم يأمره أن يرهنه إن ادعى عليه المرتهن أنه أمره بذلك، وحقق الدعوى وأما إن لم يحقق عليه الدعوى بذلك وأراد أن يحلفه من غير تحقيق الدعوى، فيجري ذلك على الاختلاف في وجوب لحوق يمين التهمة. وبالله التوفيق.

.مسألة جاء إلى ورثة رجل فقال إن أباكم رهنني سيفه هذا بكذا:

وعن رجل جاء إلى ورثة رجل، فقال لهم: إن أباكم رهنني سيفه هذا بكذا وكذا، فهاتوا حقي، وخذوا سيف أبيكم، فقال الورثة: ما نعلم ما تدعي من الحق والرهن، فهات سيف أبينا، فقال: إن جاء ببينة على ما ذكر من الحق والرهن، أخذه، وإن لم يأت ببينة لم يصدق، ودفع السيف إلى أهله، وحلفوا إن كان فيهم من يظن أنه يعلم ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، على معنى ما في المدونة وغيرها. وقد تقدمت في رسم أسلم من سماع عيسى. والقول فيها. وبالله التوفيق.

.مسألة باع من رجل سلعة بثلاثين درهما وارتهن بها منه غلاما:

وعن رجل باع من رجل سلعة بثلاثين درهما إلى شهر، وارتهن بها منه غلاما يغل كل يوم درهما، واشترط أنه يطرد حقه كل يوم في خراج غلام، وإن لم يجد الغلام كل يوم درهما، أخذه من سيده، وكان له ضامنا. قال: إذا كان مضمونا كما ذكرت، إن لم يجده عند الغلام أخذه من الراهن، كان جائزا لا بأس به، ولو لم يكن البيع على ذلك من الشرط أنه يضمن له درهما كل يوم، إلا أنه ارتهن العبد في حقه إلى محله، فطاع له الراهن بدرهم كل يوم من خراج غلامه، لم يكن بذلك بأس أيضا ما لم يرد المرتهن العبد على سيده لذلك فيكون الراهن إنما فعل ذلك للذي رد عليه من رهنه. قال عيسى: وهذا كله في البيع، فأما في السلف فلا بأس فيه.
قال الإمام القاضي: أما إذا وقع البيع على أن يرهنه العبد وهو يغل كل يوم درهما على أن يقتضي غلته من حقه، فلا يجوز، إلا أن يكون السيد ضامنا لذلك، إن لم يجد عند الغلام الدرهم كل يوم أخذه من السيد الراهن. ولو رهنه الغلام بعد عقد البيع، وطاع له أن يأخذ غلته من حقه، لجاز ذلك من غير ضمان. وأما السلف فذلك جائز فيه من غير ضمان، كان شرطا في أصل السلف أو طوعا بعد ذلك، إلا أن يطوع له بذلك على أن يرد عليه العبد، فلا يجوز بحال، لا في البيع ولا في السلف، وإن التزم السيد ضمان ذلك، إلا أن يكون الأجل قد حل ففي قول عيسى بن دينار: وهذا كله في البيع، فأما في السلف فلا بأس به، وفيه نظر، إذ إنما يفترق البيع من السلف في موضع واحد، وهو أن يشترط ذلك في أصل البيع وأصل السلف، ولا يجوز في أصل البيع. وهو نص قول مالك في كتاب حريم البئر من المدونة وعلى هذا الوجه خاصة، ينبغي أن يرد قول عيسى بن دينار، ولا يحمل على عمومه في كل المواضع. وبالله التوفيق.

.مسألة يموت المرتهن ويأتي الراهن ببينة أنه رهنه ولا يشهد له بكم رهنه:

ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك:
وسألته عن الرجل يرهن الرهن ثم يموت المرتهن، ويأتي الراهن ببينة، أنه رهنه ولا يشهد له بكم رهنه، ويزعم أنه رهنه بدينار، أو يسمى شيئا هو أدنى من الرهن، ويقول للورثة: لا علم لنا بما رهنه به عندك، القول قول من يكون؟ قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول في المرتهن يموت: إن القول قول الراهن فيما زعم، أنه رهنه به، إذا لم يكن الميت ذكر شيئا، ولم يدع الورثة علما، ويحلف على ذلك، وإن كانت قيمة الرهن أكثر مما ذكر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة. وقد تقدمت والقول فيها في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم. ومضت أيضا في رسم شك منه. ومضى في الرسم الذي قبل هذا من هذا السماع، وفي رسم أسلم منه إذا أنكر الراهن ما ادعاه ورثة المرتهن من الرهن، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وبالله التوفيق.

.مسألة يرتهن الرهن على من يكون كراء موضعه:

ومن كتاب العتق:
وسئل عن الرجل يرتهن الرهن، على من ترى كراء موضعه؟ قال: أما ما يحوزه المرتهن في منزله، مثل الرأس والثوب وما أشبه مما لا يكون في مثله مؤونة فلا كراء فيه لأن هذا يرتهنه الرجل ويحوزه معه في منزله، وعلى هذا أمر الناس، وأما إن كان الشيء له قدر وبال، مثل الشيء يخزنه وما أشبهه، فكراؤه على صاحبه؛ لأن هذا من النفقة، ونفقة الرهن على صاحبه.
قال الإمام القاضي: أما الشيء الكثير مثل الطعام يختزن، أو المتاع أو العدد من العبيد الذين يحتاجون إلى مسكن يكونون فيه، فلا اختلاف ولا إشكال في أن الكراء في ذلك كله على الراهن، كما قال. وأما مثل الرأس وشبهه الذي يحوزه الرجل في منزله ولا يشغل له مكانا لكرائه، قدر وقيمة. فقال في هذه الرواية: إنه لا كراء للمرتهن في ذلك. وقال الشيوخ: إن هذا معارض لقول ابن القاسم في المدونة: إن للحاضنة على الأب السكنى مع النفقة والكسوة، يريد على عدد الجماجم، مثل قول ابن وهب في الدمياطية وأحد قولي ابن القاسم فيها: إنه لا سكنى لها ولا خدمة والاختلاف في هذا عندي جار على اختلافهم في الحضانة، هل هي من حق الحاضن، أو من حق المحضون؟ فمن رآها من حق الحاضن، لم يوجب نفقة ولا سكنى؛ إذ لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه ويجب له بذلك حق، ومن رآها من حق المحضون، أوجب له السكنى والنفقة، أجرة لحضانته فيجب على قياس هذا الذي قلناه أنه إن كان المرتهن اشترط كون العبد الرهن بيده فأخذه لحقه وحازه في بيته أن لا يكون له كراء إن طلبه، وإن كان لم يشترط كونه بيده فدفعه إليه الراهن بطوعه، ليحوزه لنفسه في بيته أن يكون له الكراء إن طلبه. وبالله التوفيق.

.مسألة يستعير الثوب من رجل ليرهنه بعشرة دنانير فرهنه بها ثم تلف الثوب:

وسئل عن الرجل يستعير الثوب من رجل ليرهنه بعشرة دنانير، فرهنه بها ثم تلف الثوب، فقال: يضمن المرتهن للراهن، ويضمنه الراهن لصاحبه، وهو بمنزلة ما لو بيع في حقه؛ لأنه يقص به عن الراهن في حق المرتهن، فإذا كان يحط به من دينه لمكانه، فهو يغرم ذلك لصاحبه.
قال الإمام القاضي: المعنى في هذه المسألة: أن الثوب ضاع بيد المرتهن، ولذلك قال: إنه يضمنه للراهن، ولو جعله الراهن المستعير للمرتهن بيد عدل فضاع عنده لضمنه الراهن لربه، ولم يكن على المرتهن شيء، ولو جعلاه جميعا المعير والمستعير للمرتهن بيد عدل فضاع عنده، لكان ضمانه من ربه المعير، ولم يكن على المستعير ولا على المرتهن شيء. وقال أشهب: إنه إذا ضاع عند المرتهن ضمن قيمته للراهن، وضمن الراهن المستعير قيمته لربه المعير يوم طلبه به، يريد أشهب والله أعلم إن المرتهن يغرم للراهن من قيمته يوم ضاع، إذا علم أنه كان عنده يوم ادعى ضياعه على ما ذكرناه في رسم الرهون، وفي قوله: إن المستعير يغرم للمعير قيمته يوم يطلبه نظر، فتدبره. قال: وإذا بيع للمرتهن في حقه، فليس على المستعير من ثمنه إلا ما قضى عنه منه، إن كله فكله، وإن بعضه فبعضه، ويرد الباقي إلى المستعير، يريد فيدفعه إلى المعير وإن ذهب عند الأمين الذي باعه بأمر السلطان، فضمانه من المعير، وليس على المستعير إلا ما قضى عنه منه. وبالله التوفيق.

.مسألة يرتهن الرهن ثم يعيره للراهن لبعض حوائجه فيغيب به الأيام ثم يرجع:

وسئل عن الرجل يرتهن الرهن، ثم يعيره المرتهن الراهن، لبعض حوائجه، فيغيب به الأيام الثلاثة أو أقل أو أكثر، ثم يرجع، فيريد المرتهن قبضه على رهنه كما هو، ويأبى ذلك الراهن، ويقول: قد فسخت رهنك، وعاريتك إياي ترد، قال: لا أرى له رهنا ولا أرى له أخذه، إلا أن يرده إليه طائعا، وإن فلس قبل أن يرده إليه، لم يكن له رهن، وكان إسوة الغرماء، وقد اختلف في إن رده إليه بعد ذلك وفلس، هل يكون رهنا أو لا يكون رهنا؟ فمالك قال: ليس برهن، والغرماء أولى به، وهو معهم إسوة، وأما أنا فأحب إلي أن يكون رهنا إن هو حازه قبل أن يفلس. وفي كتاب أسد: قلت لابن القاسم: أيكون على الراهن أن يرده ويكون للمرتهن أن يقوم على الراهن فيأخذ رهنه؟ قال: لا إلا أن يكون أعاره على ذلك.
قال محمد بن رشد: الرهن لا يكون إلا مقبوضا لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فإذا صرف المرتهن الرهن إلى الراهن بعارية أو إجارة أو إيداع، فقد نقض رهنه، وأبطله وأخرجه عن أن يكون رهنا، فإن أراد أن يقوم عليه بعد ذلك، فيأخذ منه رهنه ليرده إلى حالته الأولى، فأما في العارية فليس له ذلك، أراد أن يأخذه منه قبل أن ينتفع به الراهن القدر الذي يرى أنه إنما أعاره إياه لذلك، ولا اختلاف في هذا، بخلاف إذا أعار الرجل متاعه لرجل، ثم أراد أن يأخذه منه قبل أن ينتفع به، فقد قيل: إن ذلك له، وهو الذي يأتي على ما في كتاب العارية من المدونة؛ لأنه قال فيها: إن الرجل إذا أعار أرضه رجلا على أن يبني فيها، إن له أن يخرجه منها قبل أن يبني، وبعد أن يبني، ويعطيه قيمة بنيانه قائما إلا أن يكون قد مضى في المدة ما يرى أنه أعاره إلى مثله، فيكون له قيمة بنيانه منقوضا. وقيل إنه ليس له أن يخرجه منها بنى أو لم يبن حتى يمضي لعاريته من الأجل، ما يرى أنه أعاره إلى مثله. وأما إن أراد أن يأخذه منه بعد أن انتفع به الراهن القدر الذي يرى أنه أعاره إليه لذلك، ففي ذلك اختلاف. قال ابن القاسم في هذه الرواية: وفي المدونة ليس ذلك له. وقال أشهب: ذلك له، وأما إن كان أراد أن يأخذه منه بعد انقضاء أجل العارية، وقد كان ضرب لها أجلا فذلك له باتفاق، بمنزلة إذا أعاره إياه، على أن يرده إليه، فإن رده إليه في الموضع الذي يلزمه أن يرده إليه باتفاق، رجع رهنا على حاله باتفاق، وكذلك يرجع رهنا على حاله إن رده إليه في الموضع الذي يختلف هل يلزمه أن يرده إليه أم لا؟ على مذهب من يرى أنه يلزمه أن يرده إليه. واختلف إن رده إليه باختياره في الموضع الذي لا يلزمه أن يرده إليه باتفاق، أو في الموضع الذي يختلف هل يلزمه أن يرده إليه أم لا؟ على قول من يرى أنه لا يلزمه أن يرده إليه هل يرجع بمجرد رده إليه رهنا على حاله الأول أم لا؟ فأما مالك فقال في هذه الرواية: إنه لا يكون رهنا، يريد أنه لا يرجع بمجرد رده إليه، إلا أن ينص على أنه قد رهنه إياه برده إليه، إذ قد خرج من الرهن الأول بعاريته إياه، وأما ابن القاسم فقال فيها: إنه يكون رهنا، يريد أنه يرجع بمجرد رده إليه رهنا على حاله الأول، فالاختلاف في هذا راجع إلى الرهن، هل تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا؟ ومن مذهب ابن القاسم في المدونة أن صحته تفتقر إلى التصريح به حسبما بيناه في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، لكنه راعى في هذه المسألة تقدم الرهن، فأقام ذلك مقام التصريح به، فليس قوله بخلاف لمذهبه في المدونة من أن الرهن تفتقر صحته إلى التصريح به، وأما مالك فلم يراع تقدم رهنه، إذ قد بطل برده إلى الراهن، فرأى أنه إذا رده إليه لا يكون رهنا حتى يصرح بذكر الرهن، ويجب على مذهبه إذا لم يكن رهنا أن يكون أحق به، ما لم يكن ثم غرماء، على معنى ما في المدونة وفي سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، وأما إذا رد المرتهن الرهن إلى الراهن بإجارة، فله أن يقوم عليه ويأخذه منه، فيكون رهنا بيده على حاله الأول إذا انقضت الإجارة، وأما إن قام عليه فأراد أخذه منه قبل انقضاء أجل الإجارة، فليس ذلك له، وقد قيل: إنه إن ادعى أنه جهل أن ذلك يكون نقضا لرهنه، وأشبه ما قال، إنه يحلف على ذلك، ويكون له رده، ما لم يقم عليه الغرماء، وأما إذا رده إليه بإيداع، فلا أقف في وقتي هذا على نص الرواية في ذلك، والذي أقول به: إن له أن يقوم عليه فيأخذه منه، ويكون له رهنا. إن لم يكن عليه دين يستغرقه باتفاق، أو ما لم يقم عليه الغرماء على اختلاف قول مالك فيمن رهن رهنا وعليه دين محيط بماله. وبالله سبحانه التوفيق.